لو سُئلنا ما هي السمّة الرئيسية التي تنطبق على شخصية إمارة دبي، ستكون أول إجابة لدينا هي رؤية دبي الاستشرافية.
فمنذ بداياتها العصرية كميناء بحري وتجاري يربط بين أطراف العالم، وصولاً إلى استجابتها السريعة والواقعية لجائحة (كوفيد 19)، ترتكز ثقافة دبي على قيم الانفتاح والانسجام والتأقلم.
وجاءت استجابة دبي السريعة وطريقة تعاملها في وقتٍ قصير من تفشي فيروس (كوفيد 19) وردّة فعل الهيئات والجهات الحكومية كأفضل مثال على هذه القيم، حيث انتقلت بمواردها وعملياتها بسرعة وسلاسة تامة إلى المنصات الإلكترونية، واستكملت ذلك بتنفيذ آليات وأنظمة الظروف الطارئة لحماية وتمكين كل أفراد القوى العاملة في القطاعات الحيوية، الذين كانوا ولا يزالون خط الدفاع الأول والدرع الواقية لحماية مجتمعنا.
وكان لقيادتنا الرشيدة برؤيتها الحكيمة، دورها البارز في مواجهة المشهد، تشارك أبطالنا على خطوط الدفاع الأولى، مثنية على جهودهم وشجاعتهم وتفانيهم في الحفاظ على استمرارية الخدمات الحيوية والحفاظ على سلامة الجميع.
وتابع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الإجراءات المتخذة لتوفير الأمان والحماية لمجتمع الإمارات بمختلف شرائحه وأفراده وأعراقه في خضم هذه الأزمة الصحية العالمية، والتي أثارت المخاوف والقلق حول العالم. وكان سموّه قبل سنوات قد قاد تنفيذ استراتيجية التحول الرقمي لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، وها نحن اليوم نجني ثمار هذه الجهود العظيمة بعدما تمكّن القطاع الحكومي من الحفاظ على استمرارية تقديم خدماته عبر مختلف المجالات وعلى مدار الساعة.
بل وانضمّ سموّه إلى التلاميذ والمعلمين خلال أول يوم لهم في تجربة «التعلم عن بعد»، متسلحاً بعزيمة لا تكل ولا تمل لتمكين أفراد المجتمع من العودة إلى حياتهم وعملهم بشكل آمن وخلال وقت قياسي، وماضياً قُدُماً بالمشاريع الوطنية التي تساهم في التقدم المستمر وتعزيز جودة حياة مجتمع الإمارات، والتي لطالما اشتهرت بها.
حوافز
ولم تكن استجابة دبي السريعة في مواجهة هذه الأزمة العالمية مقتصرة على سلامة وحماية عموم المجتمع، إذ استطاعت بمرونتها الفائقة تخفيف حدة تداعياتها على الاقتصاد، وهو ما تجسّد جلياً في إعلان سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي رئيس المجلس التنفيذي، وبتوجيهات من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عن تدشين حزمة حوافز اقتصادية وصلت قيمتها حتى الآن إلى 6.3 مليارات درهم دعماً للأعمال والمؤسسات في قطاعات مختلفة.
وكحال القطاعات الأخرى، سارعت وزارة الثقافة والشباب بتنفيذ مبادرة داعمة للمجتمع الإبداعي المحلي عبر البرنامج الوطني لدعم المبدعين، وبالمثل، قامت هيئة الثقافة والفنون في دبي بتفعيل سلسلة مستمرة من المحادثات والاستشارات المثمرة مع الأطراف الفاعلة في المشهد الثقافي في دبي.
حيث استمعت إلى آرائهم ومخاوفهم للوقوف على احتياجاتهم وإيجاد السُبل الاستراتيجية لكسر حالة الجمود العالمي التي ألقت بظلالها السلبية على جوانب حياتهم اليومية، إلى جانب استحداث طرق جديدة للاستمتاع بالتجارب الثقافية المختلفة وممارسة الأعمال الإبداعية في هذا الواقع الجديد.
تعاون
وبعد سلسلة من النقاشات مع الأطراف الفاعلة في القطاع الثقافي والإبداعي، تعاونت هيئة الثقافة والفنون في دبي مع منصّة «فن جميل للأبحاث والممارسات الفنية» لتدشين برنامج منح صغيرة للفنانين والمبدعين ممن تتضرروا من الجائحة، كما أبرمت شراكة مع منصّة «لينكد إن» لدعم المبدعين والفنانين بسلسلة من الدورات والبرامج التدريبية المتخصصة عبر الإنترنت مجاناً، وتعزيز تواصلهم مع زملائهم ونظرائهم للتعاون معاً نحو تطوير مهاراتهم، إلى جانب وضع مجموعة كبيرة من البيانات والدراسات والبحوث المستقبلية بين أيديهم.
وأخيراً، كرسّت دعمها للدعوة المفتوحة التي وجّهها المعرض العالمي للخريجين إلى الطلاب من مختلف أنحاء العالم ومن جميع المجالات لاقتراح حلول مبتكرة قادرة على معالجة التحديات الراهنة والمستقبلية التي ظهرت عقب جائحة (كوفيد 19). وهذا ليس سوى عدد قليل من المشاريع وبداية طريق لوضع خطة شاملة تصب في دعمنا المستمر للمبدعين والحرفيين والقطاع الثقافي بوجه عام خلال الأزمة الحالية وما بعدها.
قصة النجاح
تلك هي الروح والعزيمة التي تتحلى بها دوماً دبي بصفة خاصة ودولة الإمارات العربية المتحدة بصفة عامة، والفارق في قصّة نجاحنا أن عنصرها الأساسي يكمن في طريقة عملنا كفريق واحد تدفعه طموحات وأهداف واحدة. ونحن في دبي ننظر دائماً نحو المستقبل بعين الأمل والتفاؤل وتقودنا رؤية كلها تصميم وإرادة، وإننا نعتبر التحديات فرصاً تتجلّى فيها طاقتنا للمضي قدماً نحو النمو وكسر المعهود وصنع عالمنا بأيدينا، ولعل ذلك ما يلهمنا في مواصلة جهودنا نحو الابتكار وتحسين الظروف الراهنة تحت مظلة إسعاد مجتمع دبي.
وعلى الرغم من التداعيات التي خلّفتها جائحة (كوفيد 19)، شهدنا تسارعاً كبيراً في مسيرة التحوّل الرقمي عبر مختلف القطاعات، بما فيها عالم الفنون. فعندما ضربت هذه الجائحة البشرية جمعاء، أظهر مبدعو دبي والمؤسسات الثقافية قدراً عالياً من المرونة وروح المبادرة، ففي غضون أيام انتقل المشهد الثقافي والفني بعملياته ومحتوياته إلى الفضاء الإلكتروني، والأهم من ذلك كله، أصبحت المعالم والمحتويات الثقافية والفنية متاحة للجميع في كل مكان.
وقد خاض عشّاق الفنون والثقافة تجربة استثنائية خلال فعاليات ليالي «السركال أفنيو» عبر الإنترنت، بينما دعا معرض «آرت دبي» مقتني الأعمال الفنية وعموم الجمهور لزيارة فعالياته وصالات عرضه الافتراضية. وهكذا كانت الثقافة والفنون مصدراً لإسعاد المجتمع وتخفيف آلامه وفرصة للتعلم، سواء للكبار أم الصغار على حد سواء. لقد قدموا الكثير بما فاق توقعاتنا، بل وأعادوا لنا الأمل.
لم يكن ذلك بالأمر المفاجئ، والفضل يرجع إلى المدينة التي تضم أكثر المطارات الدولية ازدحاماً، وتتمتع بمكانة بارزة باعتبارها العاصمة الرقمية لمنطقة الشرق الأوسط، إذ تقع دبي عند ملتقى التجارة وثقافات العالم المختلفة.
ومسترشدين برؤية قيادتنا الحكيمة، ساهمت مؤسسات مثل مؤسسة دبي للمستقبل ودائرة دبي الذكية، واستثماراتنا وأبحاثنا المتنوعة ضمن مجالات التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا البلوك تشين والمدن الذكية، في ترسيخ مكانتنا الرائدة على صعيد تحقيق الحوكمة الذكية، كما سرّعت انتقالنا إلى المرحلة الرقمية خلال الجائحة.
ملامح المستقبل
إن الابتكار والتحوّل الرقمي يأتيان في صميم مساعينا المبذولة لتطوير المشهد الثقافي المحلي، وسوف يأخذ متحف المستقبل في دبي، والذي اقترب موعد اكتمال أعمال تشييده، زوّاره على متن رحلة لاستكشاف دور التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في رسم ملامح المستقبل والارتقاء بمستوى جودة حياتنا. ناهيكم عن دور المعرض العالمي للخريجين، والذي يوفر منصة لصقل مهارات الجيل القادم من المبتكرين تعرض مشاريعهم التصميمية ذات الأثر الاجتماعي الكبير من جميع أنحاء العالم، هذا بالإضافة إلى أسبوع دبي للتصميم، والذي يستعرض أفضل الحلول التصميمية العصرية والمبتكرة.
وعلى الرغم من كون القطاع الثقافي في دبي فتياً بشكل نسبي مقارنة بمراكز الفنون الشهيرة في الغرب والشرق الأقصى، إلا أنه مفعم بحماسة وإرادة كبيرتين تدعمهما روح استشرافية ترنو دوماً نحو المستقبل، وهذا هو السر وراء قدرة المؤسسات والمجتمع الإبداعي المحلي في التأقلم والابتكار ومواجهة تحديات المستقبل بما يضمن نجاح قطاعنا الثقافي.
لذا، فإنني على ثقة تامة بأننا سننهض مجدداً وسننتصر على الأزمة الراهنة، وبينما نتطلع إلى إعادة افتتاح معالمنا الثقافية، سنواصل تضافر جهودنا ومرونتنا العالية كما عهدناها كي نتعافى ونعود إلى المسار الصحيح ولنجدد آمالنا خلال المرحلة المقبلة.
الاتحاد مصدر قوّتنا.. فالعمل والتعاون معاً سيمكناننا من تحويل الأزمات إلى دروس مستفادة، والتحديات إلى فرص من شأنها أن تعزز نموّنا. وتكمن إرادتنا نحو مواصلة التطوير والابتكار في طموحنا المشترك المتمثّل في تحقيق السعادة والرفاه لسكان دبي. ويرجع الفضل في ذلك إلى دروس تعلمناها من قادتنا في الالتزام المستمر بالابتكار الرقمي وإرساء أسس بنية تحتية متينة، وهو ما نلمس ثماره حالياً، كما يضعنا في مكانة أفضل لإيجاد حلول مبتكرة قادرة على صون تراثنا المادي والمعنوي.
وختاماً، أؤكد لكم أن هذه الجائحة قد تكون تداعياتها شملت أغلب جوانب حياتنا اليومية، ولكنها لن تحول دون جهودنا نحو ترجمة طموحاتنا الثقافية في دبي، فهذه الأزمة صنعت العكس وجعلتنا أكثر إرادة وعزماً. وإنني أتطلع إلى العمل مع جميع العاملين في القطاع لضمان استمرارية رونق مشهدنا الثقافي والتحلي بروح مستقبلية ممتدة حتى الأجيال القادمة.